رؤيا للمعلوميات

حسان الحديثي

سافر قاضي المدينة مع ثلة من صحبه يوماً للسياحية والاصطياف وكان اسنَّهم عمراً وقد بدت عليه سمات الهرم وعلامات الشيخوخة ، وحين وصلوا الى وجهتهم السياحية همس بأذنه أحدُ أصحابه: سيدي القاضي لم لا تدخل هذا المنتجع السياحي فقد سمعت عنه انه ما من شيخ دخل فيه الا وعاد شاباً نضر الوجه مفتول العضلات مشدود الخاصرة.

لقد سمعت يا سيدي ان لديهم اجهزة تعيد الفتوة لابن آدم كما يعيد الصيقليُ اللمعانَ للسيف الصدئ، وتذيب التجاعيد كما يذوبُ الثلجُ في اليوم القائظ.

ضحكت الفكرة في عقل القاضي 

فمكر ودبّر وأضمر في نفسه ما اضمر.

وفي صباح اليوم التالي كان القاضي واقفاً عند باب المنتجع يهم بالدخول فاستقبلته حسناء طويلةُ القامة، باديةُ الابتسامة، منسدلةُ الشَعْر، منشرحةُ الصدر، تمشي بخفة وحنين، وتتكلم بغنج وأنين، فأخذت بيده برقة ولطف، واجلسته في غرفة المعاينة والكشف.

وما هي الا دقائق حتى التفّ من حوله مجموعة من المتخصصين هذا يعاين وجهه وذاك ينكز خاصرته وأخر يتأمل شعر رأسه ثم انتهى الكشف بتقرير يقول: ان على القاضي ان يمكث عندنا ثلاثة شهور تحت نظام غذائي، وبرنامج رياضي، كي يتخلص من زوائد الشحم، ويعيد بناء العضل والعظم، ولكي يخضع وجهه للترطيب وشعره للتهذيب.

فكان القاضي في جوابه، اطوعَ لهم من شرطي بابه.

وما انقضت الشهور الثلاثة الا وقوام القاضي من حكمه اعدل، وشَعْرُهُ من ليله اليل، وجسمه بين الفتيان اكمل واجمل، غير ان وجهه بقي بندوبهِ القريحة، وبثورهِ القبيحة، وقد أعيت الحاضرين، من الاطباء والمتخصصين، وكأنها آثار حروق بائدة، وبقايا أحكام فاسدة.

فغضب ووبّخ القائمين على الأمر وطلب منهم معالجتها بأي طريقة وحال ، والا اتهمهم بالنصب والاحتيال، فاقترب منه كبير المتخصصين وهمس في اذنه: هناك حل واحد يا سيدي

فقال القاضي: وماذا تنتظر؟ عليَّ به

فقال الطبيب: هناك عقدة في جسم الانسان تحوي على قطرة من الماء تدعى ماء الحياة اذا استطعنا ان نجدها في جسدك سحبنا ذلك الماء فإذا حقناه في بَشَرَتِك عادت اليها نضارتُها في ايام .

فما كان من القاضي إلا ان قبل القضية، ووقع على اجراء العملية.

وفعلا تمت العملية بسلام، وما هي الا بضعة ايام، حتى عاد وجه القاضي، الى شكله وجماله الماضي، ولكنه احسّ بشيء غريب وشعور عجيب، ذلك انه لم يعد يتحمس لرؤية الممرضات الجميلات، ولا تهزة اعطافهن المائلات، ولا تثيره اعناقهن الناعمات، حتى ان احداهن تاتي لتعتنيَ به بخصرها النحيل، وخدها الصقيل، وهو لا يكاد يهتز او يميل. وكأنه في الغرفة ثوب من الاثواب ، او خشبة جامدة من ضمن الاخشاب.

والصبايا من حوله رائحات غاديات يتهامسن ويتضاحكن عليه وكأنهن يعلمن عنه ما خفي من السر والكتمان، وقد، اصابة ما أصاب مرياع الضان من الحيوان، يعجبه قرنه الذائد وصوفه اللابد، غير انه مخصي وللفحولة فاقد.

فثارت ثائرته وتسعّر لهيب غضبه بعد ان استعلم عما أصابه فاخبره الطبيب بالخبر الذي اتى عليه كريح ثمود او حجارة لوط، فبدأ يلعن ويتبّ، ويشتم ويسب، والطبيب واقف ثابت الحال، غير آبهٍ به او مبال، حتى اذا انتهى من وعده ووعيده، وصياحه ورعيده، التفت اليه وقال: لقد اخبرناك يا سيدي منذ البداية ولم نقم بشيء الا ان اخذنا إمضاءك وموافقتك.

لملم القاضي اشياءه من الغد وعاد الى دياره وهو لا يكاد يصدّق ما حصل وكان، فلم ينم ليلته تلك بل لم يلامس جنبه سريره ، حتى اذا تفتّق عن الليل الصباح تفتّق ذهنُه عن فكرة جهنمية وحيلة شيطانية دخل بها دار القضاء على صحبه من الحكام والقضاة. 

ولما حمدوا الله على سلامة عودته ورأوا كبيرَهم وقد عاد رشيق القوام انيق المظهر صبوح الوجه وهو مبتسم ودود وكأنه حاز على نبتة الخلود، وفاز بعشبة الشباب، تطاولت اليه الاعناق والرقاب، يسألونه عن امره وما خفي من خبره، فنصحهم بذلك المنتجع العجيب واخبرهم ان من يدخل فيه يدخل في عالم الشباب والجمال، والفتوة والكمال.

فبدأ القضاة يرتبون حالهم ويجهزون انفسهم وكلما عادت منهم مجموعة ذهبت اختها حتى لم يبق في المدينة قاض محتكم على مائه، ولا جبين بقطرة من خجله وحيائه.

ولم تمض على المدينة الا بضعة شهور حتى اصبح القضاة اترف الناس شكلاً واطراهم جلوداً ، ففقدت المدينة عذريتها بعد ان فقدت المحكمة ذكورتَها.

وبعد حين من الدهر وفي ظاهر تلك المدينة، سُئل أحد اهلها الراحلين عنها، وعن سبب نزوح الناس منها، فقال : لقد أغرتنا بالبقاء الفحولة، حين فقدنا الرجولة.

أما الآن فليس لنا انتماء، ولا بقية اغراء.

فقد فقدنا الفحولة بعد ان فقدنا الذكورة والرجولة.

.